الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أَقُولُ: الَّذِي ظَهَرَ لَنَا بِاعْتِبَارِ مَا وَصَلَ بَحْثِي إلَيْهِ وَمَا فَهِمْته مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ- إنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا صَارِفَ لَهُ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي عُلُوِّ شَأْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُقَابِلَةَ بَيْنَ بَعْثِهِ وَبَعْثِهِمْ لَا بَيْنَ شَرِيعَتِهِ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَالِاحْتِمَالُ فِي الثَّانِي لَا فِي الْأَوَّلِ وَلِأَنَّ النَّاسَ تَكَلَّمُوا فِي غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَعَ كَوْنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِيعَتُهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَأَجَابُوا بِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا كَانَ رَسُولًا إلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالْإِيمَانِ مَعَ اسْتِعْبَادِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ} الْآيَتَيْنِ كَذَلِكَ {وَإِذْ نَادَى رَبُّك مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}- الْآيَتَيْنِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى دَعْوَةِ مُوسَى وَهَارُونَ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ بِالْأُصُولِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ} لِأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِالْأُصُولِ وَبِهَذَا الْفَرْعِ كُلُّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى شَرِيعَةِ مُوسَى وَإِنْ كَانَ قَدْ كَانَ مُكَلَّفًا قَبْلَ ذَلِكَ أَيْضًا بِشَرِيعَةِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ فِيمَا مَضَى وَتَقَدَّمَ تَكْلِيفُهُ.وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مُوسَى رَسُولٌ إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِلَى الْقِبْطِ وَكَذَا هُوَ، وَتَتَعَلَّقُ شَرِيعَتُهُ أَيْضًا بِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي شَرِيعَتِهِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ إلَّا بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِبَنِي إسْرَائِيلَ وَمِنْ دَانَ بِدِينِهِمْ خَاصَّةً دُونَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَنْ مَاتَ مِنْ الْكُفَّارِ فِي أَوَّلِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَجَدَّدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ النَّاسَ قَالُوا فِي الطُّوفَانِ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا قَوْمُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِذَلِكَ عُوقِبُوا.وَرُبَّمَا مَرَّ بِي مِنْ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ غَرَقِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالطُّوفَانِ وَغَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَلَّفِينَ بِالْإِيمَانِ بِدَعْوَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الرُّسُلِ لِاشْتِرَاكِ جَمِيعِ الرُّسُلِ فِي الدَّعْوَةِ إلَى الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ بِالْفَرْعِ وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي الطُّوفَانِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا قَوْمُ نُوحٍ وَبِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ دَخَلُوا فِي دَعْوَةِ مُوسَى بِالْإِيمَانِ.وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا أُصُولَهَا وَفُرُوعَهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ فَيَكْتَفُونَ فِي إغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهِ وَبِالْإِيمَانِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فُرِضَ سَوَاءٌ قُلْنَا بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ بِمَا مَرَّ بِي مِنْ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ بِمَا قُلْنَاهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ دَعْوَةَ كُلِّ نَبِيٍّ بِالْإِيمَانِ وَأُصُولِ الدِّينِ كَانَتْ عَامَّةً لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدَّعْوَةِ إلَى الْإِيمَانِ أَنَّ دَعْوَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ عَامَّةٌ فِيهِ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ دَعَا قَوْمَهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ}- الْآيَةَ فَكُلُّ وَاحِدٍ دَاعٍ إلَى ذَلِكَ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ.وَقَالَ تعالى: {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ} وَقَالَ تعالى: {وَإِلَى عَادٍ} {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} وَقَالَ فِي التَّوْرَاةِ {هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيلَ} وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَرَسُولًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّا أَرْسَلْنَاك} وَلَمْ يُخَصِّصْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً» وَظَاهِرُهُ مَا قُلْنَاهُ فَالْعُدُولُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ.فَصْلٌ:قَالَ السَّائِلُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} الْآيَاتِ فَلَمْ يُنْكِرْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ فَلَا دَعَاهُمْ إلَى دِينِهِ.أَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَلَا يُقْدَرُ عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَعَلَّهُ قَدْ أُنْكِرَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَا دَعَاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ فَكَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ قَبْلَهُ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَكِنَّهُ إذَا رَآهُمْ عَلَى جَهْلٍ وَخَطَأٍ لَا يَتْرُكُ إرْشَادَهُمْ.وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَأْيِيدُ ذَلِكَ الْمُدَّعَى بِهَذِهِ الْقِصَّةِ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ الْمُدَّعَى مُتَأَيَّدٌ ثَابِتٌ بِغَيْرِهَا كَمَا سَبَقَ.هَذَا مَا انْتَهَى نَظَرِي إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ.وَقَدْ اسْتَوْفَيْت كَلَامَ السَّائِلِ فَلَمْ أَحْذِفْ مِنْهُ شَيْئًا وَهَذَا الْجَوَابُ يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ تَصْنِيفًا مُسْتَقِلًّا وَيُسَمَّى الدَّلَالَةُ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ فَرَغْت مِنْهُ عِنْدَ أَذَانِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ سَنَةَ 738 انْتَهَى. اهـ.
وقوله: [الرجز] وقوله: [الكامل] والجامع بينهما: أنَّهُ لمَّا أضاف إلى الياء وَحْدَها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف.ويجوزُ أبو البقاء أن يكون {بيني} متعلّقًا بمحذوف على أنَّهُ صفة لـ {شهيد}، فيكون في مَحَلّ رفع، والظاهر خلافُهُ.قوله: {وأوْحِيَ} الجمهور على بِنَائِهِ للمفعول، وحُذِف الفاعل للعمل به، وهو الله تبارك وتعالى.و{القرآن} رفع به.وقرأ أبو نهيك، والجحدري، وعكرمة، وابن السَّمَيْفَع: {وأوْحَى} ببنائه للفاعل، {القرآن} نَصْبًا على المفعول به.و{لأنْذِرَكُمْ} متعلِّقٌ بـ {أوحي}.قيل: وثمَّ مَعْطُوف حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، أي: لأنذركم به وأبَشِّركم به، كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]، وتقدم فيه نظائرُ، وقيل: لا حاجة إليه، لأن المقام مَقَامُ تخويف.قوله تعالى: {ومَنْ بَلَغَ} فيه ثلاثةُ أقوال:أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبِ عطفًا على المنصوب في {لأنْذِرَكُمْ}، وتكون مَنْ موصولةٌ، والعائِدُ عليها من صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ.أعني: ولأنذر الذي بلغه القرآن الكريم من العَرَبِ والعَجَمِ.وقيل: من الثَّقَلَيْنِ.وقيل: من بَلَغَهُ من القرآن الكريم إلى يوم القيامةِ.وعن سعيد بن جبير: «من بلغه من القرآن، فكأنما رأى مُحَمَّدًا عليه الصَّلاة والسَّلامُ».الثاني: أنَّ في {بَلَغَ} ضميرًا مرفوعًا يَعُودُ على {مَنْ}، ويكون المفعول محذوفًا، وهو منصوب المَحَلّ أيضًا نَسَقًا على مَفْعُول {لأنذركم} والتقدير: ولأنذر الذي بَلَغَ الحُلُمَ، فالعَائِدُ هنا مُسْتَتِرٌ في الفعل.الثالث: أنّ {مَنْ} مرفوعةُ المحلِّ نَسَقًا على الضَّميرِ المرفوع في {لأنذركم}، وجاز ذلك؛ لأنَّ الفصل بالمفعول والجارِّ والمجرور أغْنَى عن تأكيده، والتقديرُ: لأنذركمن به، ولينذركم الذي بَلَغَهُ القرآن.قوله: {أإنًّكُمْ} الجمهور على القراءة بهمزتين: أولاهما للاستفهام، وهو استفهامُ تَفْريعٍ وتوبيخ.قال الفراء رحمه الله تعالى: ولم يَقُل آخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، كقوله: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180] وقوله: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} [طه: 51] ولم يقل الأوّل، ولا الأولينن وكل ذلك صوابٌ وقد تقدَّم الكلامُ في قراءاتٍ مثل هذا.قال أبو حيَّان: وبِتَسْهيلِ الثانية، وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المُسَهَّلَة، روى هذه الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو، ونافع انتهى.وهذا الكلام يؤذن بأنها قراءةٌ مُسْتَغْرَبَةٌ، وليس كذلك، بل المَرْوِيُّ عن أبي عمرو رضي الله عنه المَدُّ بين الهَمْزَتَيْنِ، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك.وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملةٌ للاستفهام، وإنَّما حُذِفَتْ لفهم المعنى، ودلالة القراءة الشهيرة عليها، وتحتمل الخبر المَحْضَ.ثم هذه الجملة الاستفهامية، يحتمل أن تكون مَنْصُوبَةَ المَحَلّ لكونها في حَيَّزِ القول، وهو الظَّاهر، كأنه أُمِرَ أن يقول: أيُّ شيء أكْبَرُ شَهَادًة وأن يقول أإنكم لتشهدون.ويحتمل أن تكون داخلَةً في حيَّزه فلا مَحَلّ لها حينئذٍ، و{أخرى} صفةٌ لـ {آلهة}؛ لأن ما لا يَعْقِل يُعَامَلُ جَمْعُهُ مُعاملةَ الوحداةِ المؤنّثة، كقوله: {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18]، و{وَللَّهِ الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180] كما تقدَّم.قوله: {إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ} يجوز في {ما} هذه وجهان:أظهرهما: أنها كافَّةٌ لـ {إنَّ} عن عملها، و{هو} مبتدأ، و{إله} خبر، و{واحد} صفته.والثاني: أنها مَوْصُولَةٌ بمعنى الذي، وهو مبتدأ، و{إله} خبره، وهذه الجملةُ صَلَةٌ وعائد، والموصول في مَحَلِّ نصب اسمًا لـ {إن} و{واحد} خبرها.والتقدير: إنَّ الذي هو إله واحد، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيف، ويَدُلُّ على صِحَّةِ الوجه الأوَّلِ تعيُّنُه في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171]، إذ لا يجوز فيه أن تكون مَوْصُولَةً لخلوِّ الجملة عن ضمير الموصول.وقال أبو البقاء في هذا الوَجْهِ: وهو ألْيَقُ مما قبله.قال شهابُ الدِّين: رضي الله عنه: ولا أدري ما وجه ذلك؟. اهـ. باختصار.
|